الاثنين، 19 يناير 2009

الجنود الأميركيون في العراق يعانون صداعاً وتلفا في السمع.. وهفوات الذاكرة

علماء الأعصاب يحاولون فهم الأسباب


دراسة أميركية مثيرة أجريت على الجنود الأميركيين الذين أكملوا خدمتهم وعادوا من العراق، أشارت الى أن معظم الذين شاركوا في العمليات الحربية أو تعرضوا لهجمات في العبوات الناسفة، يعانون صداعا مزمنا وتلفا في السمع. وتميل الدراسة الى أن أسباب الصداع تعود الى ما يسمونه «الاضطرابات ما بعد الصدمة»، وهي حالة نفسية تتطور أعقاب الأحداث التي يتعرض لها الشخص وتهدد حياته. كما أن للصدمات ـــ حتى الخفيفة منها ـــ تأثيرا على عمل الدماغ، الأمر الذي يسبب الصداع والغثيان والأرق والهفوات في الذاكرة والكوابيس وفقدان التركيز. ولم تحدد الدراسة الفترة التي يمكن أن تستمر في الحالات التي شخصتها، لكن الباحثين ذكروا أن الارتجاج في الأعراض واضحة، ومن المفترض أن تستمر لعدة أشهر بعد عودة الجنود كحد أدنى، وعامين كحد أقصى.
نسيان غامض
يعلق فورت جاكسون، الذي تعرضت قافلة كان من ضمنها الى عبوة ناسفة على بعد 20 مترا، بأنه كان يظن أن هذه الأعراض تختفي مع مرور الوقت، لكنه يواجه صعوبة في التركيز وبدأت تتراكم عليه الأحداث والأسماء والشخوص الذين نسيهم. يتذكر بحزن فريق البيسبول لذي كان ينتمي اليه في ساوث كارولينا قبل خدمته في العراق، وبدهشة يعلق: «لم أتصور أنني سأنسى أسماء اللاعبين يوما ما.. سأفعل كل شيء لأعيد ذاكرتي». الأطباء المحليون تصعب عليهم معالجة مثل هذه الحالات التي لا تكشفها التحاليل ولا الأجهزة، فيما تتزايد شكاوى آلاف الجنود العائدين، وأغلبها مماثل. وما يحير، أن لا اصابات خطيرة في الرأس او في الدماغ، والتحول في الشخصية أصبح غير عادي، مما يسبب الغموض في التعامل معهم وايجاد طريقة يخرجونهم بها من هذه المتاعب.
دراسة ميدانية
دراسة أخرى اعتمدت على الاحصاء الميداني، بينت أن 62% من الجنود العائدين تعرضوا بشكل مباشر أو كانوا على مقربة من الانفجارات العنيفة، ونسبة من تعرض منهم للأذى الجسدي لم تشكل أكثر من 2%. غير أن الـ 60% الذي سلموا من النار، وقعوا في المصير المجهول للتأثير الجانبي للانفجار، حيث كانت اصابات المخ خفيفة.
تأثير موجات الصدمة
عالمة الأعصاب ايبولا كيرناك المديرة الطبية في مختبر الفيزياء التطبيقية لجامعة هوبكنز، تعتبر واحدة من الباحثين القلائل في الولايات المتحدة الذين يسعون الى معرفة أسباب هذه الظواهر المرضية. وتعتقد كيرناك أن الانفجار قد يكون أكثر من مجرد سبب رئيسي للموت، بل موجات الصدمة تسبب الضغط على موجات متتالية من خلال الأوعية الدموية كموجات المد المصغرة وهذا الاندفاع في الأمواج يلحق الضرر في أنسجة المخ. الكولونيل جيفري لينغ طبيب الأمراض العصبية الذي تعامل مع القوات في كل من أفغانستان والعراق يوافق على تفسير «الصدمة» وتأثيرها في أنسجة المخ. ولينغ الذي يتمتع بشهرة واسعة في مجال بحوثه في علم الأعصاب يرى أن الانفجارات المكثفة تؤدي الى خلق مجالات مغناطيسية تسبب الضرر على خلايا المخ، وهذه متلازمة معروفة بين قدامى المحاربين في المراحل الأولى من عودتهم الى الوطن. واذا كانت الحالة معروفة، فان أكثر ما يطمح اليه لينغ هو معرفة أسبابها الجوهرية: «لأنني لو عرفتها، فمن المحتمل أستطيع منع وجودها».
أموال للبحوث
مع وجود 178000 شخص منتشرين في العراق وأفغانستان وآلاف أخرى تستعد للانضمام اليهم بين الحين والآخر، فان مسألة التمويل تصدح في الكونغرس مجددا. ولغاية نهاية عام 2008 كان الكونغرس قد خصص 300 مليون دولار لأبحاث العلوم الأساسية الخاصة باصابات الدماغ واضطرابات ما بعد الصدمة. وتنشغل المعاهد الأميركية والبريطانية المتخصصة في الاضطرابات العصبية والسكتة الدماغية بهذه القضية، بحيث تمت الدعوة أخيرا لأكثر من 100 طبيب والاختصاصيين في علوم الاعصاب والنشاط الحيوي لعلماء الفيزياء ومهندسين للبحث عما هو معروف عن الانفجار وتأثيراته المتصلة بإصابات المخ. وزارة الدفاع الأميركية ووكالة مشاريع البحوث المتقدمة خصصت في عام 2008 وحده مبلغ 9 ملايين دولار لإدارة هذه المجموعة من الخبراء بقيادة لينغ لغرض دراسة آثار التفجيرات على الدماغ من بين المواد الكيميائية والتغييرات الهيكلية والأعراض السلوكية الناجمة عنها.




البحث عن حلول
من جهة أخرى، الجنود والأطباء ينتظرون الحصول على إجابات عن الأسئلة المحيرة التي شغلتهم بدءا من التشخيص حتى العلاج. وفوق كل شيء، الجميع حقا يريد أن يعرف فيما إذا كان الانفجار أو من يتعرض له عن بعد أو قرب يسبب الأضرار المباشرة أو يؤدي على المدى البعيد لمشاكل عصبية، كالكمين المنصوب للمحاربين القدامى الذي يبقى يلازمهم العمر كله.
الخطر الكامن
نحو 97% من الجنود الاميركيين الجرحى في العراق الذين عادوا إلى ديارهم بقوا على قيد الحياة. ومعدل البقاء على قيد الحياة هو أعلى مما كان عليه في أي حرب أخرى، وإلى حد كبير بفضل التحسينات في الدروع الواقية للجسد والسترات والخوذ التي ترتديها اليوم القوات الأميركية، وإجراءات الإجلاء والرعاية الطبية الميدانية والثابتة. هذه الإجراءات أنقذت الجنود من الرصاص والشظايا، ولكن المتاعب كانت تستمر معهم حتى لو عولجت أجسادهم من الإصابات المباشرة للانفجارات.
طرق عديدة للإصابة
هناك طرق عديدة لأن يعتبر الشخص تعرض فيها للإصابة.. فانفجار قنبلة سيحول المواد إلى ضغط الغازات وسيتوسع جدار الصوت عدة مرات بقوة الرياح وأحيانا يبدو كالإعصار. والانفجار سيترك الموجات التي تترك الفراغ أعقابها، هذا الفراغ الذي يؤدي إلى الضغط الذي يمزق بدوره طبلات الأذن ويؤذي الرئتين. أنها تأثيرات بالغة الخطورة كالتي تفعلها الشظايا والحطام وما تسببها من أضرار.
الجروح الخفية
في تقرير بعنوان «الجروح الخفية» أعدته مؤسسة راند للأبحاث جاء فيه أن 19،5% من بين 320 ألف جندي (من مجموع القوات البالغ 1،64 مليون جندي) أرسلوا إلى العراق وأفغانستان قد يعانون صدمات إصابة المخ. ومن المستحيل تحديد عدد أولئك الذين أصابهم الضرر الفعلي. ويشير التقرير إلى أن التشخيص سيتطلب المزيد من الاختبارات، لا سيما أن 57% منهم لم يسبق لهم أبدا أن خضعوا لعمليات التقييم الطبي في مجال صدمات الدماغ: «لدينا واحد من كل خمسة جنود يرجح إصابتهم بصدمة المخ، ونحن لا نعرف ما يعنيه ذلك من حيث العاهات والاحتياجات في المستقبل».تقول تيري تانيلاين المشرفة على إعداد هذا التقرير: «غير معروف حقا ما الذي يقلقهم على وجه التحديد». فمثل هذه الأمراض لا تظهر على مستوى الرنين المغناطيسي والمسح الضوئي والنبض المغناطيسي - الكهربائي. انها النتيجة التراكمية التي تمتد من النهايات العصبية، مثل تأثير الدومينو الكيميائية والتغيرات الجزيئية. فالضرر أصاب خلايا المخ وأدى إلى تعطيل التدفق الطبيعي للمعلومات. وهذا ما يفسر ويمكن وصفه بـ «الطبخ البطيء» في مختبر خلايا المخ التي يمكن أن تؤدي على المدى الطويل إلى تدهور الأنسجة.
أعراض الصدمة جزء من الصعوبة التي تواجه الباحثين والأطباء هو أن الجيش غير معني بقضايا الفرز والاستبيان وحتى في المستشفيات العسكرية، فهم يبذلون جهدهم لمعالجة الإصابات الجسدية في الغالب ولا يوجد لديهم في تلك المناطق متخصصون كبار في تشخيص أعراض الصدمات الخفيفة التي يعانيها المخ. قد ينتبهون إلى الكدمات أو التورم، غير أن الحديث يدور عن إصابات من النادر أن تظهرها الاشعة، وفي كثير من الحالات قد لا يكون هناك جرح يلفت الانتباه لهذه المشكلة. حتى الأطباء تعودوا هذه الأعراض: آلاف الجنود يشكون من الصداع واضطرابات النوم والحساسية من الضوء والضوضاء، فالفسيولوجيا العصبية لا تزال معارفها بطيئة خاصة في المناطق الساخنة. لذلك ليس من المستغرب أن مثل هذه المشاكل غير الملموسة بالتشخيص والأشعة هي التي تؤدي إلى تغييرات تعكر المزاج وتؤدي إلى تحول شامل في الشخصية وتعريض الوظائف المتنوعة للجسد إلى المزيد من المتاعب.



العنصر العاطفي
لا يستبعد ستيفن سكوت الذي يدير عيادة إصابات الدماغ في مستشفى المحاربين القدامى في فلوريدا «العنصر العاطفي» في هذه المشكلة. فلو نظرت إلى قوة الانفجار، لا بد أن تستوقفك الكثير من المعاني التي حملتها غير الأصوات والرعد والنار والشظايا. الالتباس عند سكوت يبدأ في تشخيص ضحايا الانفجار وعدم تحديد أسباب الاضطرابات ما بعد الصدمة، فالتركيز يكون وقتها على الأضرار البدنية، فيما يتراجع الاهتمام بالنفسية والعاطفية. يؤيده غاري أبرامز الذي يرأس مركزا لإعادة تأهيل المحاربين القدامى في سان فرانسيسكو بقوله: «نبذل قصارى جهدنا لنتفهمها»، ويقصد الجوانب النفسية.
من هو السليم؟
ولأن أيا من الذين يعانون هذه المتاعب لا يحملون وثائق تدل على إصابتهم في المخ، فهم يكونون خارج حسبة الاستحقاقات الطبية والرعاية الاجتماعية ويبقون مدى الحياة يحملون هذه الصعوبات كغرامة يدفعونها للحرب التي خاضوها. والمحزن في هذه المشكلة، أن بعض الجنود الذين لا يريد أحد الاعتراف بالمشاكل التي يعانونها، يعادون مجددا إلى ميادين القتال لأنهم في وضع بدني سليم ولم يفقدوا أمعاءهم في الانفجار ولديهم القدرة على ارتداء الملابس والخوذة وحمل السلاح، فهم سليمون من وجهة النظر العسكرية التي لا تأبه كثيرا للنظرة المتخصصة في علوم الأعصاب الدقيقة. ان هؤلاء الجنود بحاجة ماسة إلى برنامج متكامل لإعادة التأهيل يشمل زيارات متواصلة لعيادات الأمراض العصبية والنفسية والعلاج الطبيعي ولا بد أن يشرف على علاجهم أيضا أطباء متخصصون في آلام الاضطرابات النفسية وصدمات الدماغ، فالكثيرون منهم تحولوا إلى مدمني الخمر والمخدرات، لكونها باعتقادهم مساعدات سهلة تبعثر تمزقهم أكثر فأكثر.
المشكلة الحقيقية
وبصرف النظر عن تأخر العلوم العصبية والنفسية في مجال معالجة متاعب الذاكرة وعدم استطاعة التكنولوجيا الحديثة إحداث تقدم في مجال تعزيز الذاكرة، فإن هذه المصاعب قد تفوق الجروح الجسدية والندوب التي تخلفها الشظايا، وإذا كانت الأعصاب تالفة، فهل ينبغي إلقاء اللوم على الصداع! هي قضية معقدة تواجه الطب العسكري والعلوم الطبية ذات الصلة بالمخ وبالتحديد معرفة الأضرار في المقام الأول وأسبابها. علماء الفيزياء التطبيقية منشغلون في دراسة موجات التفجير وتأثير الضغط على موجات المخ، بينما العقيدة العسكرية التقليدية مطمئنة طالما الجمجمة صاحية ومحمية بواسطة الخوذ، أما البلاء الذي تحت الخوذة، فلا يمكن لجهاز قياسه وتدارك أضراره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق